سنة مهجورة في زمن الغفلة: وصية النبيﷺ لأمته قبل أن تغفو أعينهم

في حديث عظيم رواه الصحابي الجليل البراء بن عازب رضي الله عنه، ينقل لنا وصية نبوية خالدة ترسم ملامح ختام اليوم المسلم بطريقة تجمع بين الطهارة الجسدية والنقاء القلبي والاتصال العميق بالله سبحانه وتعالى. يقول البراء: قال رسول الله ﷺ:
"إذا أتيت مضجعك، فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل:
اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ، فَأَنْتَ عَلَى الفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ".
حديث جمع بين الفقه والعقيدة، وبين الإيمان والعمل، وبين العبادة والتسليم، وهو ما سنفصّله في هذا التقرير الشرعي والروحي.
أول ما يأمر به النبي ﷺ هو الوضوء قبل النوم، كأنّما يريد أن يختم العبد يومه بالطهارة، كما بدأه فالطهارة ليست فقط استعدادًا للصلاة، بل أيضًا تهيئة روحية للقاء الله تعالى إن وافاه الأجل وهو نائم.
وقد ورد في روايات أخرى أن من نام على وضوء بات ملك، لا يفارقه حتى يستيقظ، يستغفر له. فالطهارة جسدًا هي انعكاس لنقاء الروح، ولهذا افتتحت الوصية بها.
الاضطجاع على الشق الأيمن.. سنة تحمل حكمة وعقيدة
ثم يُوجّه الرسول ﷺ الصحابي أن ينام على شقه الأيمن، وهو ما ذهب إليه جمهور العلماء كسنة نبوية، وأشار بعض الأطباء لاحقًا لفوائد طبية في هذا الوضع، لكن الأصل أنه اتباعٌ للهدي النبوي. واليمين دائمًا في الشرع له دلالة الفضل والبركة، حتى في دخول المسجد واللباس.
العبارات التي أوصى النبي ﷺ أن تُقال قبل النوم ليست دعاءً عاديًا، بل هي إعلان إيماني كامل بالتسليم لله عز وجل:
"أسلمت وجهي إليك": أي وجّهت وجهي، وجهي هنا رمزٌ للذات كلّها، كما في قوله تعالى: ومن يُسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى (لقمان: 22).
"فوضت أمري إليك": هذا قمة التوكل، أن تضع كل همومك وأحزانك وآمالك في يد الله.
"ألجأت ظهري إليك": أي استندت عليك، فليس لي سواك، ولا قدرة لي دونك، كما يستند الجندي إلى الحائط عند التعب.
"رغبة ورهبة إليك": حب وخوف، أمل وخشية، خشوع وتضرع هذه هي العبادة كما وصفها العلماء: الخوف مع الحب.
لا مفر من الله إلا إليه.. كلمة تهز القلوب
قولك في الدعاء: "لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك" هو من أبلغ ما قيل في التوحيد، كأنك تقول: يا رب، لا مهرب منك، لا بالمعصية ولا بالهروب، فكل الطرق تؤدي إليك، ولك وحدك الملجأ والمفر.
وقد ورد هذا المعنى في دعاء النبي ﷺ يوم الطائف، حين قال: "أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بي غضبك أو يحلّ بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك"
ختم الدعاء بالإيمان بالقرآن والنبي ﷺ، لأن العقيدة هي آخر ما يليق أن يعلق باللسان قبل النوم، خاصة أن النوم شقيق الموت، ومن مات على هذا الذكر فقد مات على الفطرة، كما بيّن الحديث.
وهذا يوافق ما جاء في حديث البراء أيضًا عندما سأل النبي ﷺ: وإن متّ؟ قال: متّ على الفطرة، أي على الإسلام الخالص، كما خلق الله الناس أول مرة.
"فإن متّ من ليلتك فأنت على الفطرة".. ضمانة الرحمة عند الفناء
هذه الجملة تحمل وعدًا عظيمًا وبشرى ربانية لمن ختم يومه بهذا الذكر، فلو مات على هذا الذكر، فـهو على الفطرة التي فطر الله الناس عليها، أي على الإيمان والتوحيد، وهذه أعظم بشارة للمسلم في فراشه، فلا ينام غافلًا، بل ينام في طمأنينة التسليم واليقين
جعلها آخر ما تتكلم به.. قاعدة ذهبية في أذكار النوم
من دقة التوجيه النبوي أن يختم المسلم بها كلامه في يومه، فلا يشغل لسانه بعدها بلغط أو لهو أو حديث فارغ، بل يدخل نومه على نقاء روحي وكلام توحيد وهذه السنة لو واظب عليها المسلم، كانت حصنًا له في دنياه وآخرته.
قراءة فقهية وروحية
من منظور فقه النوم وآدابه في الشريعة، يظهر لنا هذا الحديث كمرجع مركزي، لأنه جمع:
الطهارة البدنية (الوضوء).
السُّنة الجسدية (النوم على الشق الأيمن).
التسليم القلبي (التوكل على الله).
الإيمان العقائدي (الإيمان بالكتاب والنبي).
وخاتمة اللسان في الذكر (آخر ما تتكلم به).
وهكذا لا يكون النوم في الإسلام مجرد راحة بيولوجية، بل تعبد وتوكل وتصفية للنفس واستخلاف لله في الروح إن فارقت الجسد.