مساجد الغرب بين توحيد الصفوف وتعدد المذاهب.. صراع الهوية في منابر الاغتراب

في قلب المدن الغربية، من باريس إلى لندن، ومن برلين إلى نيويورك، ترتفع مآذن المساجد كعلامات دينية وثقافية للمجتمعات المسلمة التي وجدت في الهجرة فرصة لحياة أفضل، وللاستقرار في بيئات متعددة الأديان والثقافات.
غير أن هذه المساجد، التي يفترض أن تكون منارات للهداية ومراكز للتماسك، أضحت في بعض الأحيان ساحة لتجاذبات مذهبية وطائفية، بل وحتى سياسية فهل ما زالت المساجد في الغرب ملاذًا روحيًّا خالصًا، أم أنها انزلقت إلى حلبة صراع؟
الحضور الإسلامي المتزايد في الغرب
تشير الإحصاءات إلى تزايد عدد المسلمين في دول الغرب، إذ يقدر عددهم بنحو 25 مليون مسلم في أوروبا وحدها، وأكثر من 3 ملايين في الولايات المتحدة، ما دفع إلى ارتفاع عدد المساجد والمراكز الإسلامية في العقدين الأخيرين بشكل لافت ففي فرنسا وحدها يوجد أكثر من 2500 مسجد، بينما يتجاوز العدد في بريطانيا 1700 مسجد، فضلاً عن مئات المراكز الدعوية في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا.
هذا الحضور الكمي رافقه توسع نوعي، فالمساجد لم تعد أماكن للصلاة فقط، بل صارت مراكز تعليمية واجتماعية وخدمية، تنظم حلقات لتحفيظ القرآن، وتقديم دروس الفقه، إلى جانب تقديم الدعم الاجتماعي للمهاجرين واللاجئين.
يؤكد عدد من الأئمة والدعاة في أوروبا أن المساجد لعبت دورًا جوهريًا في حفظ هوية المسلمين من الذوبان الثقافي، خاصة في أجيال ما بعد الهجرة، كما ساهمت في بناء جسور تواصل مع المجتمعات الغربية من خلال برامج الحوار بين الأديان، والمشاركة في الحملات الاجتماعية والبيئية، وتنظيم الفعاليات الثقافية المفتوحة للجمهور الغربي.
ويقول الشيخ خالد ياسين، أحد الأئمة الناشطين في بريطانيا، في حديث سابق: "المسجد بالنسبة للمسلمين في الغرب ليس مجرد مكان عبادة، بل هو مرجعية مجتمعية كاملة، تحتوي الطفل والشاب والمرأة، وتغرس فيهم قيمًا روحية وأخلاقية، في ظل مجتمعات يغلب عليها طابع الفردية والمادية".
تجاذبات مذهبية
رغم هذا الدور الإيجابي، إلا أن عدداً من علماء الإسلام أبدوا قلقهم من أن بعض المساجد في الغرب أصبحت مرآة لصراعات مذهبية وفكرية مستوردة من بلدان المسلمين، بل إن بعضها تحول إلى ساحات توتر بسبب الانتماء العقائدي أو السياسي للقائمين عليها أو للممولين.
ففي لندن مثلاً، توجد مساجد توصف بأنها "سلفية" وأخرى "صوفية"، ومساجد ذات طابع شيعي وأخرى تتبع جماعات دعوية محددة، ما يجعل الشباب المسلم عرضة للانقسام داخل مجتمع هو نفسه يعاني من ضغوط الاندماج والتمييز.
ويقول د. حسان بوحفص، الباحث في شؤون الجاليات الإسلامية في فرنسا: “الانقسام المذهبي داخل المساجد بات مقلقًا؛ فبدلاً من أن تكون المساجد مركزًا لتوحيد الصف وتثقيف الجيل الجديد، أصبحت في بعض الأحيان تعيد إنتاج الخلافات التي فرّ منها المهاجرون”.
لا يمكن الحديث عن المساجد في الغرب دون الإشارة إلى إشكالية التمويل فالكثير من المساجد تعتمد على تبرعات من مؤسسات دينية في بلدان إسلامية، وهو ما يطرح تساؤلات حول استقلالية القرار الدعوي والتوجه الديني.
فبعض الدول تسعى من خلال الدعم المالي إلى التأثير على مضمون الخطاب الديني، وتوجيهه بما يتوافق مع مصالحها أو رؤاها العقائدية وقد أدى هذا إلى نشوء تكتلات داخل الجاليات، وإثارة الشكوك في نوايا بعض القيادات الدينية.
في المقابل، تسعى دول أوروبية مثل فرنسا وألمانيا إلى دعم "إسلام أوروبي مستقل"، عبر تدريب أئمة محليين يتحدثون لغة المجتمع ويعرفون قوانينه، ويعملون على توجيه خطاب ديني معتدل ينسجم مع القيم العامة للدولة.
غياب الأطر التنظيمية وتحديات الأئمة
من أكبر التحديات التي تواجه المساجد في الغرب ضعف التأهيل الديني لبعض الأئمة، وغياب إطار تنظيمي موحد يجمعهم، مما يؤدي إلى تفاوت كبير في مستوى الخطاب، بل وإلى ظهور خطابات متشددة في بعض الأحيان، وهو ما تستغله وسائل الإعلام الغربية لتكريس صورة سلبية عن المسلمين.
ويقول الشيخ عمر عبد الله، إمام مسجد في ألمانيا: "هناك نقص شديد في الأئمة المؤهلين تربويًا وفقهيًا، بالإضافة إلى ضغوط الحياة في أوروبا، ما يجعل بعض الأئمة يعملون بشكل تطوعي أو بدخل متدنٍ، ويصعب عليهم التفرغ الكامل للمسجد، وهذا يؤثر على جودة الأداء الدعوي والتربوي".
هل من حلول؟
يرى المختصون أن الطريق نحو تجاوز هذه الإشكاليات يمر عبر عدد من الخطوات العملية، أبرزها:
تأهيل الأئمة بتدريبهم في معاهد دينية متخصصة تراعي السياق الغربي.
إنشاء مجالس شورى داخل الجاليات الإسلامية لتنظيم عمل المساجد وتوحيد الخطاب.
التمويل المحلي عبر الاكتفاء بتبرعات الجالية لتجنب التأثيرات الخارجية.
تعذزيز اللغة المحلية في الخطب والدروس، لضمان تواصل فعّال مع الأجيال الجديدة والمجتمع الأوسع.
تشجيع المساجد الجامعة التي تستوعب الاختلافات المذهبية دون صراع أو إقصاء.
المساجد في الغرب تمثل نقطة ارتكاز للجاليات المسلمة، وهي في الأصل حواضن للقيم والتسامح والتربية الروحية غير أن التحديات التي تواجهها، سواء كانت داخلية أو خارجية، تستوجب يقظة كبيرة من القائمين عليها ومن مؤسسات الإفتاء والمجتمع المدني الإسلامي.
ففي ظل تصاعد الإسلاموفوبيا وتنامي الخطابات اليمينية في الغرب، فإن الحفاظ على المسجد كمكان جامع وهادئ، محايد مذهبيًا ومستنير فكريًا، لم يعد خيارًا، بل ضرورة وجودية لضمان بقاء الهوية المسلمة في الغرب نابضة بالحياة والاعتدال.